أقلام التلفزيون

اجرِ فأنت حر

عين جارية - يكتبها احميدة عياشي

كثيرا ما تعاملنا مع أجسادنا كأجسام غريبة عنا، كأشياء نحملها وكأنها مفروضة علينا لا نشعر بها ولا نحس بوجودها الحيوي فينا، بل نتعاطى معها في أحيان كثيرة كأثقال تعيقنا على تدفق الحياة في شراييننا وعروقنا ودمنا… وكقيود تشدنا إلى ذات المكان الجامد والخالي من كل نبض وتشل فينا القدرة على الحركة والتنقل الى فضاءات أكثر اتساعا وآفاق أكثر رحابة.

إننا غالبا ما نفقد الحرية والشعور بأجسادنا عندما نفقد الحركة ويصبح الجسد مغتربا عنها. وعندما أتحدث عن الحركة، فأنا أتحدث عن الجسد الحي، الجسد المتفقد، الجسد الذي يجعل من تحدي نفسه وتجاوز حدودها رهانا وقضية وجود وحياة. ويُعد الجري ليس هذا التحدي للجسد وحسب، بل محرك الحياة فيه عندما نمارسه بوعي ومثابرة وفلسفة ورغبة وفهم من أفهام ممارسة الحياة.

ان الجري ليس مجرد بذل جهد عضلي أو مشاركة في سباق أو تنافس رياضي بقدر ما هو حرية تتجلى في الاقبال عليه كممارسة تنضوي في أسلوب حياتنا اليومية وعيشنا العادي والبسيط. ومع تقدمنا في العمر يصبح الجري هو الضامن لبلوغ الحرية المؤجلة أو المعلقة.

ان الجري ليس وقفا على العدّاء الهاوي أو المحترف بل تجلي الارادة فينا عندما نتخذه أسلوب حياة ونحن نغادر مدارج الكهولة نحو الشيخوخة، وهذا ليس بهدف التمديد من العمر وإنما بغاية إعادة امتلاك الجسد كمرادف للحرية.

لقد تعرفت وأنا أخوض الجري وعمري يتجاوز الخمسين على شيخ تجاوز عمره الواحد والثمانين، أراني بعض الصور وهو لم يتجاوز السادسة عشر من عمره.

بجري حافي القدمين في وسط العاصمة رفقة عدد من المتسابقين الأوروبيين، واستمر يجري العمر كله… جرى وهو في الجبل بجنب عبان رمضان وكان حلاقه الخاص وحلاق عدد من المجاهدين وحلاق عدد من المجاهدين الآخرين.

ثم جرى بعد الاستقلال، وكذلك استمر كل أيام الإرهاب يتحدى الموت والإرهابيين، لألتقيه في العام 20016 بأعالي بلاد القبائل في ميشلي يخوض سباق نصف الماراتون (21كم ) بنفس عزيمة شباب في العشرينيات.

كان يتكلم بعفوية وشعاع أخاذ يطل من عينيه الزرقاوين. حاولت أن أستوعب السر الذي جعل منه يجري وهو في مثل هذه السن المتقدمة، فلم يكن هذا السر يكمن إلا في الحرية التي ظلت تسكن الجسد، والتي كانت تتمثل في هذه الرغبة في ممارسة الجري وترجمته اليومية في التدريبات والممارسة العاشقة له.

لما باشرت الجري لم أكن أفكر في أن باستطاعته أن يمنحني هذا الامتلاك للحرية التي انطلقت من الجسد بينما كانت جذورها تختمر في أغوار تلك النقطة المتجذرة في سكوننا الداخلي التي اسمها الإرادة.

كان عليّ أن أحيي هذه الارادة من مواتها وكمونها وأسقيها يوميا لطاقة الجري المتنامية والراغبة والتواقة إلى الانتشار في كامل الجسد.

كان لابد من توفر القرار الذي تمثل في فعل اجرِ… اركُض … انطلِق… غادر فراشك… طلّق مكانك وأطلق الريح لرجليك.. أي اجرِ…

حلّق في فضائك الذي تغمره الفضاءات البيضاء والمسافات المفتوحة والاآفاق الرحبة التي تغريك بعد كل مسافة بتنفس حريتها برجليك وقصبتك الهوائية ورئتيك المنتفختين.

عادةً ما يسألني بعض الفضوليين من الأصدقاء وهم الذين لم يكن بوسعهم استعادة صورتي إلّا بحملي لسيجارة أبدية بين أصبحي: كيف قررت أن تجري وكيف تغلبت على جسدك المثقل المحمول؟ وكنت أردد بالجري، بتحول الجري إلى معنى في حياتي يمنح لروحي قوتها ولقوّتي الخاملة روحها لنتطلق وتتشبّع بروح الحرية..

هذه الحرية لم يكن ممكنا الشعور بها إلا عندما قلت للجسد اجرِ فجرى…

احميدة عياشي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى