أخبار التلفزيونأخبار الوطن

28 أكتوبر: لقاءٌ متجدد بين جيل مؤسّس وآخر يحمل الشعلة

تحل اليوم الأربعاء، الذكرى الثامنة والخمسون لاسترجاع السيادة الوطنية على أكبر مؤسستين إعلاميتين للدولة الجزائرية، الإذاعة والتلفزيون، وتحريرهما من الاستعمار الفرنسي.

فبعدما صدحَ المجاهد والإعلامي عيسى مسعودي، وهو أول من تقلد منصب المدير العام للإذاعة والتلفزيون بعد الاستقلال، بعبارة “هنا صوت الجزائر الحرّة المكافحة”، داخل مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، اتفق مع رفيقه المجاهد والإعلامي عبدالقادر نور، أول رئيس تحرير للإذاعة والتلفزيون بعد الاستقلال، على طريقة لإنزال العلم الفرنسي من على مبنى المؤسسة الوطنية.

في تصريحات سابقة له يقول نور إنه قرر الدخول للإذاعة لمبدأين: “أولهما الحفاظ على الهوية الوطنية، وثانيهما قطع حبل الاستمرارية مع النظام الاستعماري”.

ولقطع هذا الحبل، يواصل نور في تصريحاته: “اتفقنا مع عيسى مسعودي وخالد سافر وعبد الرحمان الأغواطي وعبد العزيز الشكيري على إنزال العلم الفرنسي، تزامنا مع اقتراب ذكرى اندلاع الثورة المظفرة، فقمنا بإنزال العلم لنرفزتهم لأنهم لم يستجيبوا لإنزاله بطريقة حضارية. وانسحب كل الفرنسيين في 28 أكتوبر 1962”.

بعد هذا التاريخ الفارق في الإعلام السمعي البصري للجزائر المستقلّة، وانسحاب كل الصحفيين الفرنسيين العاملين في مبنى التلفزيون احتجاجًا على إنزال علم بلدهم وتعويضه بالعلم الوطني؛ قرر الإعلاميون والمهندسون والتقنيون الجزائريون، بعد أن استجابوا لنداء الواجب، تحدي الظروف والعوامل الصعبة من قلّة في الموارد البشرية وتواضع في الإمكانات وانعدام الخبرة اللازمة في التسيير واستعمال العتاد الذي خلفه الاستعمار وغياب المعرفة بالهيكل التنظيمي للإذاعة والتلفزيون.

بفضل شجاعتهم واحترافيهم، استطاع هؤلاء رفع التحدي، وأبانوا احترافية كبيرة وصبر عال لمواصلة البث بعد انقطاع قصير. إذن أثبتت الكفاءات الوطنية قدرتها وجدارتها بتسلم دفة قيادة مبنى التلفزيون، وأنها تملك العزيمة لمواصلة بناء مؤسسة الإعلام في الجزائر المستقلّة؛ وهي خطوة جبارة حققها شباب وطني طموح بجزائر مزدهرة.

استعاد التلفزيون سيادته الكاملة وأصبح كل العاملين فيه جزائريين، وكان هذا هو الرهان الأكبر الذي رفعه جيل الاستقلال والذي يليه، في وجه المستعمر الفرنسي لتسيير هاتين المؤسستين رغم الخبرة الضئيلة؛ لكن بفضل الإرادة القوية وحب الوطن؛ استطاعوا أن يواصلوا مشوار البناء ونقل السيادة الجديدة للدولة الجزائرية، وكذا تثبيت القيم الثقافية وترسيخ عادات الشعب الجزائري التي لا تمت بصلّة بالمسخ الذي استعمله المستعمر لفترة طويلة.

ليست ذكرى استرجاع السيادة على مؤسستي الإذاعة والتلفزيون، التي تصادف كل سنة تاريخ 28 أكتوبر، هي ليست مجرد محطة عابرة، وإنما تاريخ بارز وموعد ثابت ومناسبة تاريخية هامة لتذكير الأجيال بالدور التاريخي لهاتين المؤسستين العريقتين، وكون استعادة السيادة عليهما يعدّ إنجازا تفخر به الجزائر المستقلّة، وضرورة البناء على رصيدهما التاريخي لإعلام فعّال وقويّ وقادر على مواجهة التحولات الراهنة في البلاد والتطورات الجارية في العالم أجمع. إذ لا يختلف إثنان على أهمية وفاعلية وقوة الإعلام السمعي البصري وديناميكيته وقدرته على التأثير الواسع.

يُعد الوصول لمحطة استرجاع السيادة على الإذاعة والتلفزيون نتيجة لسلسلة من النضالات لأبطال الجزائر في جميع الميادين، ويمكن هنا التطرق لظروف إنشاء “إذاعة الجزائر الحرة المكافحة” التي تعد رمزا من رموز نضالات الشعب الجزائري وقد تم تأسيسها ضمن نتائج مؤتمر الصومام، والذي أكد على الأهمية البالغة لدور وسائل الإعلام في التعريف بقضية الشعب الجزائري العادلة. وهو السلاح الثاني للثورة الجزائرية، حتى أن قيادة الثورة كانت تعتبر مثلا “إذاعة صوت الجزائر الحرّة” الولاية التاريخية السابعة، وهذا يدل على أن الإعلام في وقت الثورة كان له دور محور ورئيسي.

فهذه الإذاعات فرضت نفسها وقت الاحتلال، وأدت مهتمها في توصيل صوت أحرار الجزائر والتعريف بثورة نوفمبر عبر العالم وبث الشك في المستعمر وإحباط معنوياته ومحاربة حملاته الدعائية ضد المجاهدين والثورة والتأكيد على أن تحرر الجزائر بات وشيكا وأمرا واقعا لا محال، وإثبات أن الثوار قادرون على الوقوف ندا للند أمام الاستعمار.

ولا شك أن إعلام الجزائر المستقلة مدين كثيرا لهذا الجيل الرائد ومطالب بتشريف ذاكرتهم وتخليد أعمالهم ومواصلة السير على طريقهم ضمن معايير تتحكم فيها قواعد المهنة والاحترافية.

واليوم وبعد مرور 58 عاما من الجهد والعمل المتواصل وتتبع خطى وشجاعة السلف الذي تحدى الظروف وحارب الصعاب من أجل مواصلة البثّ، تمثل هذه الفترة الحالية -كمرحلة مصيرية تمرّ بها البلاد- بدورها تحديا خاصا ومن نوع آخر يخوض غماره صحفيو وعمال مؤسستي التلفزيون والإذاعة. فمع تعاقب الأجيال على هذه المؤسسة يمكن ملاحظة التطور الهائل والتحديث الذي مسّ الصحافة وميّز بالأخص الإعلام السمعي البصري في الجزائر. فالإذاعات المحلية تتوزع الآن عبر كامل التراب الوطني من خلال 48 ولاية، تبث بعضها بشكل متواصل 24سا/24سا، هذا بفضل الأجهزة التقنية المتطورة التي اقتنتها مؤسسة البث والإرسال الإذاعي، إضافة إلى الإذاعات الوطنية الثلاث المخصصة للقرآن الكريم والثقافة والشباب، من خلال إعلام جواري توعوي ذي رسالة هادفة.

أما التلفزيون الجزائري، من خلال المؤسسة العمومية للتلفزيون وبـ19 مديرية، فهو يضمن تغطية شاملة عبر كامل ربوع الوطن من خلال القناة الأولى أو القناة الأرضية، والهدف هو وصول الرسالة الاجتماعية والثقافية للتلفزيون إلى كل طبقات المجتمع وإلى كل الأماكن في الجزائر العميقة وكل مناطق الظل.

وبحكم أنه قناة عمومية، فتتركز غاية التلفزيون الجزائري على تنوع البرامج ذات الروح الوطنية، وقضايا الراهن بمختلف تشعباته، وطبعا دون نسيان أخبار المجتمع الدولي، ويتم تقديمها بكامل الشفافية المطلوبة وتوخي الموضوعية اللازمة، ويعمل التلفزيون كمؤسسة إعلامية على عصرنة وسائله ومواكبة كل جديد في عالم تكنولوجيا الإعلام والإتصال، من خلال عمليات الرقمنة المتواصلة داخل المؤسسة، وتحديث جميع الأجهزة وجعلها متطورة لتسهيل عمل جنود الخفاء، وفي غضون هذه السنة تسعى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون على توقيف البث التماثلي في الجزائر بشكل نهائي والاعتماد كليا على الرقمنة.

إن تاريخ الـ28 أكتوبر 1962، والذي يخلّد ذكرى استرجاع السيادة الوطنية على أهم مؤسستين إعلاميتين من مؤسسات الدولة الجزائرية وهما الإذاعة والتلفزيون الجزائريان، يعدّ علامة خالدة ورمزا للروح الوطنية التي تحلى بها الإعلاميون والتقنيون الجزائريون والذين أبرزوا حبهم الوطني وقدراتهم وإصرارهم على رفع التحدي لضمان بث البرامج إبقاء صوت الجزائر مسموعا.

ويشكّل هذا الموعد في كل سنة مساحة للقاء بين جيل كافح للنهوض بالقطاع السمعي البصري في الجزائر ما بعد الاستقلال واستطاع بإمكاناته المتواضعة فرض سيطرته على الإذاعة والتلفزيون، وبين جيل يحلم بمواصلة التحدي لتشييد إعلام جاد يرقى لسمعة المؤسستين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى